وخطب صلّى الله عليه وسلّم الناس في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو ثاني أيام التشريق ويقال له: يوم الرؤوس؛ لأن أهل مكة يسمونه بذلك؛ لأكلهم رؤوس الأضاحي فيه, وهو أوسط أيام التشريق( ), فعن أبي نجيح عن رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم, وهما من بني بكر, قالا: رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب بين أوسط أيام التشريق, ونحن عند راحلته, وهي خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي خطب( ) بمنى( ), وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم وسْطَ أيام التشريق فقال: ”يا أيها الناس إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود, ولا لأسود على أحمر على أحمر إلا بالتقوى, أبلغت“؟ قالوا: بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: ”أي يوم هذا“؟ قالوا: يوم حرام. ثم قال: ”أيُّ شهر هذا“؟ قالوا: شهر حرام. ثم قال: ”أي بلد هذا“؟ قالوا: بلد حرام. قال: ”فإن الله قد حرَّم بينكم دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا، أبلغت“؟ قالوا بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: ”ليبلغ الشاهد الغائب“( ).
وهناك جمل من خطبه صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع في الأماكن المقدسة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس في حجة الوداع فقال: ”إن ال قد يئس أن يُعبد بأرضكم ولكن رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا, إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً, كتاب الله وسنة نبيه...“ الحديث( ). وحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو يخطب الناس على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: ”يا أيها الناس أطيعوا ربكم, وصلّوا خمسكم, وأدّوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم, وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم“( ).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ إن كل من قدم المدينة إجابة لأذان النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحج فقد حج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لقول جابر رضي الله عنه: "فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل مثل عمله"( )
.
2 ـ استحباب نزول الحاج إلى عرفات بعد زوال الشمس إن تيسر ذلك.
3 ـ استحباب خطبة الإمام بالحجاج بعرفات, يبين فيها للناس ما يحتاجون إليه، ويعتني ببيان التوحيد, وأصول الدين, ويحذر فيها من الشرك والبدع والمعاصي, ويوصي الناس بالعمل بالكتاب والسنة.
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في حجة الوداع ثلاث خطب: خطبة يوم عرفة, والخطبة الثانية يوم النحر في منى, والخطبة الثالثة في منى يوم الثاني عشر من ذي الحجة. ومذهب الشافعي أن الإمام يخطب يوم السابع من ذي الحجة كذلك( ), ويعلم الإمام الناس في كل خطبة ما يحتاجون إليه إلى الخطبة لأخرى.
4 ـ تأكيد غلظ تحريم الدماء, والأعراض, والأموال, والأبشار الجلدية.
5 ـ استخدام ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا“.
6 ـ إبطال أفعال الجاهلية, وربا الجاهلية, وأنه لا قصاص في قتلى الجاهلية.
7 ـ إن الإمام ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يجب أن يبدأ بنفسه وأهله؛ لأنه أقرب لقبول قوله, وطيب نفس من قرب عهده بالإسلام.
8 ـ الموضوع من الربا هو الزائد على رأس المال, أما رأس المال فلصاحبه.
9 ـ مراعاة حق النساء, ومعاشرتهن بالمعروف, وقد جاءت أحاديث كثيرة بذلك جمعها النووي أو معظمها في رياض الصالحين.
10 ـ وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وجواز تأديبها إذا أتت بما يقتضي التأديب لكن بالشروط والضوابط التي جاءت بالكتاب والسنة، وأن لا يحصل منكر من أجل ذلك التأديب.
11 ـ الوصية بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
12 ـ قوله: ”لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ ففي ذلك لام الأمر, والمعنى خذوا مناسككم, وهكذا وقع في رواية غير مسلم, وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال، والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها, واحفظوها واعملوا بها، وعلموها الناس, وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج, فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”صلوا كما رأيتموني أصلي“( ).
13ـ وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ إشارة إلى توديعهم, وإعلامهم بقرب وفاته صلّى الله عليه وسلّم, وحثهم على الأخذ عنه, وانتهاز الفرصة وملازمته, وبهذا سميت حجة الوداع.
14 ـ الحث على تبليغ العلم ونشره, وأن الفهم ليس شرطاً في الأداء, وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدم ولكن بقلة, وأن الأفضل أن يكون الخطيب على مكان مرتفع؛ ليكون أبلغ في سماع الناس ورؤيتهم له.
15 ـ استخدام السؤال ثم السكوت والتفسير يدل على التفخيم, والتقرير والتنبيه.
16 ـ الأمر بطاعة ولي الأمر مادام يقود الناس بكتاب الله تعالى, وإذا ظهرت منه بعض المعاصي والمنكرات, وُعِظَ وَذُكِّر بالله وخُوِّف به لكن بالحكمة والأسلوب الحسن.
17 ـ الوصية بطاعة الله, والصلاة, والزكاة, والصيام, وأنه لا فرق بين أصناف الناس إلا بالتقوى.
18 ـ معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الظاهرة الدالة على صدقه, وذلك بسماع الناس لخطبته يوم النحر وهم في منازلهم( ) فقد فتح الله لأسماعهم كلهم لها.
19 ـ الضحية سنه مؤكدة على الصحيح من أقوال أهل العلم, وهي في حق الحاج وغير الحاج فلا يجزئ عنها الهدي, وإنما هي سنة مستقلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن خطب