لحظات فراق الحبيب لأمته
لا ريب أن الحديث عن وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا يحتاج إلى بليغٍ تهتز له المنابرُ، ولا يحتاج إلى خطيبٍ تحمل صدى قوله المناور.
إنه حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحل أعيننا بعدُ برؤيته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزقنا جوارَه في جنَّته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي بلَّغ دين الله وأرشد إليه، وناجى ربه ودعا إليه، صلوات الله وسلامه عليه.
في آخر العام التاسع بدأ - صلى الله عليه وسلم - يشعر بدنوِّ أَجَلِه وقرب رحيله وفراقه لمن حوله، وكان أول إرهاصات هذا الأمر العظيم أنه - عليه الصلاة والسلام - ودَّع معاذًا لما بعثه إلى اليمن ومعاذ على راحلته وهو - صلى الله عليه وسلم - يقود الناقة؛ أوصاه بما يفعله في الدعوة، ثم قال: ((يا معاذ؛ لعلَّك لا تلقاني بعد عامي هذا، يا معاذ لعلَّك تمر على قبري ومسجدي))، ثم ودَّعه - عليه الصلاة والسلام.
وفي خطبةِ عَرَفة؛ كان يقول بعد كل مقطع من خطبته: ((ألا هل بلَّغت؟))؛ فيقول أصحابه: نعم؛ فيقول: ((اللهم فاشهد))، حتى إنه كان واضحًا معهم - وهو إمام المخلصين -: ((أيها الناس، إنكم ستُسألون عني؛ فماذا أنتم قائلون؟))؛ فقالوا: نشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأدَّيْت الأمانة، ووفَّيْت وأدَّيْت الذي عليك كلَّه. فرفع - صلى الله عليه وسلم - سبَّابته إلى السماء، ثم نَكَتَها إلى الأرض، ثم قال: ((اللهم فاشهد)).
وكان يودِّع الناس شاعرًا بقرب أجله ودنوِّ رحيله، وخرج ليلةً مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع يستغفر لهم، ثم قال: ((يا أبا مويهبة؛ إن الله خيَّرني بين أن أُعطَى مفاتيحَ الأرض والخُلْد فيها، ثم الجنة))؛ فقال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي، اختر مفاتيح الأرض والخلد فيها ثم الجنة! فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا والله يا أبا مويهبة، ولكني اخترت لقاء ربي ثم الجنة))!!
ثم رجع وقد أحس بصداعٍ في رأسه، فدخل على عائشة فقالت: وارأساه! فقال: ((بل أنا وارأساه))؛ أخبر عن مرضه، وعن الصداع الذي أصابه، ثم أخذ يشتد عليه الصداع مع الحمى تصيبه، وأخذ الوجعُ يثقلُ عليه شيئًا فشيئًا.
فلما ثقل عليه؛ عرف أنه لا يستطيع أن يأتي إلى بيوت نسائه كلِّهن، فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - اشتدَّ عليه وجعُه؛ فاستأذن أزواجه أن يكون في بيت عائشة - رضي الله عنها - فأذنَّ له، فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة - رضي الله عنها - تخطّ رِجْلاه في الأرض، متكئًا على الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - حتى أتى إلى بيت عائشة، فمكث في بيتها يشتد عليه الوجع شيئًا فشيئًا، وهو يشعر بدنوِّ أجله؛ فأخذ يصنع أشياءَ يودِّع بها الناسَ وتبرأ بها ذمتُه.
فإنه لما ثقل عليه الوجع طلب أن يُهراق عليه سَبْعُ قرب من ماءٍ لم تحلّ أوْكِيَتُهنَّ، ثم خرج إلى الناس عاصبًا رأسه فدخل المسجد، وبدأ بالمنبر، وأول ما بدأ في خطبته: صلَّى على شهداء أحد، واستغفر لهم وفاءً لهم، ثم قال: ((أيها الناس، من كنتُ أخذتُ له مالًا؛ فهذا مالي فليأخذ منه، ومن جلدت له ظهرًا؛ فهذا ظهري فليقتصّ منه)؛ فقام عكاشة بن محصن أمام الناس قائلًا: يا رسول الله، أما إنك قد طلبتُ القصاص منك، فأنا أريد أن أقتصَّ منك، وذلك أنك كنت تسوِّي الصفوف يوم بدر طعنتني بعصا كانت في يدك في خاصرتي، وقد آلمتني، وأنت عرَّضت نفسك للقصاص! فقام علي فقال: أنا في القصاص فداءً له؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يا علي؛ بل يقتصّ مني)).
فأمر بالعصا التي كانت معه فأُتِيَ بها، ورفع عكاشة العصا في يده واتَّجه نحو المنبر، وارتفع صوت البكاء في المسجد!!
موقفٌ من أشد المواقف على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم... حبيبهم في مرضه الشديد، وصحابيٌّ يقتصُّ منه أمام الناس!!
فلما وصل عكاشة بن محصن إلى المنبر؛ ألقى العصا من يده، ثم ضمَّ الجسم الشريف، وبكى بكاءً شديدًا وهو يقول: جسمي لجسمك فداء! فضجَّ المسجد بالبكاء.
ثم أوصى الناس بالأنصار خيرًا؛ وفاءً لهم، فقال: ((فإنهم كَرِشي وعَيْبَتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم).
ثم أوصى بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ثم أوصى بالصلاة وقال: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)).
ثم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
ثم قال: ((إن عبدًا خيَّره الله أن يؤتيَه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده؛ فاختار ما عنده))؛ فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - وفهم المراد، وقال من أقصى المسجد: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((على رِسْلِكَ يا أبا بكر))، ثم التفت يبيِّن لهم فضل ومكانة أبي بكر فقال: ((إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن أخوَّة الإسلام ومودته، لا يبقينَّ في المسجد بابٌ إلا سدَّ إلا باب أبي بكر)).
فلما انتهى من ذلك صلى بهم الظهر، ثم رجع إلى بيته، يزداد عليه الوجع شيئًا فشيئًا، ثم دخلت عليه فاطمة - رضي الله عنها - فسارَّها بشيءٍ فبكت، ثم سارَّها بشيءٍ فضحكت! ثم سُئلت عن ذلك بعدُ فأخبرت عن قوله لها في الأولى أنه سيموت في مرضه هذا؛ فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقًا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة؛ فضحكت - رضي الله عنها.
ثم إنه قبل وفاته بأربعة أيام أعتق غلمانه، وتصدَّق بسبعة دنانير كانت عنده، ثم مكث الوجع يشتدُّ عليه، فكان يغشى عليه أحيانًا ويفيق أحيانًا من شدة الحمى التي كانت تصيبه، فلما عرف أنه لا يقدر أن يصلِّي بالناس؛ أرسل إلى أبي بكر أن يصلِّي، فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها؛ أن يقف في مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، لا يملك دمعته! فأوصت مَنْ يدعو عمرًا أن يصلي بهم، فصلى بهم عمر، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يأبى الله ذلك والمؤمنون، لا يصلينَّ بالناس إلا أبو بكر))؛ كالإشارة إلى استخلافه من بعده.
ثم ثقل عليه الوجع، وبقي أبو بكر يصلي بهم، حتى خرج عليهم - رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ووجدهم يصلُّون خلف أبي بكر، فأشار إلى أبي بكر: أن ابقَ مكانك، فلم يقبل، فرجع أبو بكر فلمَّا فرغ من الصلاة قال لأبي بكر: ((ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟))؛ فقال أبو بكر: ما كان لأبي بكر أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى بيته يشتدّ علي الوجع، ويرى من الكرب ما الله به عليم.
حتى كان يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان الناس في صلاة الفجر، فإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يكشف الستار الذي كان بينهم وبين بيت عائشة - رضي الله عنها - فلما رآه الصحابة متهلِّلًا وجهُه كأنه ورقة مصحف كادوا يفتتنون؛ ظنًّا منهم أنه برئ، فهمَّ أبو بكر أن يرجع، فأشار إليهم: أن ابقوا مكانكم، ونظر إليهم نظرة مودِّع.
إنها النظرة الأخيرة! النظرة التي لن يراها أصحابه وأحباؤه بعدها في الدنيا.
إنها نظرة الفراق! لن ينعموا بعدها برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا بعد هذا اليوم!!
ثم رجع إلى حجرته يشتد عليه الوجع، وبين يديه ركوة فيها ماء، فكان يضع يديه في الركوة ويمسح بها وجهه الطاهر، ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعنِّي على سكرات الموت)).
ثم دخلت عليه فاطمة وهو على هذا الحال فقالت: واكرب أبتاه! فقال - وهو العارف بربه -: ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)).
ودخل عليه أسامة، وأشار إليه: أن ادعُ لي، فلم يستطع - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له بلسانه، ولكنه رفع يديه يدعو لأسامة في سرِّه.
ثم ثقل عليه الوجع، فدخل عليه عبدُالرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك يستاك به، فأمعن وحدَّ البصر إلى عبدالرحمن؛ ففهمت عائشة أنه يريد السواك، فأشارت إليه؛ فأومأ برأسه: أنْ نعم، فأخذت السواكَ من أخيها ومضغته وليَّنته، ثم أعطته رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون آخر عمل يصنعه في حياته.
ثم رفع إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، وأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا. اللهم اغفر لي وارحمني، في الرفيق الأعلى))؛ كررها ثلاثًا، حتى كان آخر ما قال: ((في الرفيق الأعلى))، ثم مالت يده - صلوات الله وسلامه عليه!!
إنا لله وإنا إليه راجعون! مات الشفيق الرحيم بأمَّته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر، والصغير والكبير، مات مَنْ كان للأيتام أبًا، مات مَنْ كان للأرامل عونًا وسندًا، مات نبي الأمة وقدوة الخَلْق، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار، وتشنَّفت بسماع صوته وجميل حديثه الأسماع والآذان؛ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30-31].